أن الكثير من العلاقات الاجتماعية بين الناس تحتاج إلى آليات هامة لتفعيلها وتنشيطها وتعد اللهجة الواحدة وما معها من عادات وتقاليد مشتركة من أهم تلك الأليات وأكثرها فعالية بحيث تجعل الناس يتواصلون فيما بينهم حتى وإن اختلفوا على أشياء أخرى .
فأذكر عندما كنت أخرج في بداية طفولتي لألعب مع الأولاد في بلدتي (اليعربية )1 كنت اسمع هؤلاء الأطفال يتكلمون لهجة مختلفة عن لهجتي مع أن أجدادي كانوا من مؤسسي هذه البلدة التي اُطلـِق عليها في البداية اسم (تل كوجر) نسبة إلى أكراد الكوجر الذين كانوا يأتونها من المناطق القريبة من (رميلان) ويتجمعون فيها لبيع مشتقاتهم الحيوانية من أجبان وألبان وبيض والتي أصبح اسمها فيما بعد (اليعربية .
وكانت هذه البلدة مزيج من عمال وموظفي السكك الحديدية والدرك والهجانة فمنهم المحلمي والحلبي والديري والسرياني (توخ لركي) والأرمني والكردي والتركماني والعنزي وغيرهم ممن أمتزجت لهجاتهم ولكناتهم مع بعضها وتزاوجت فيما بينها حتى تمخض عنها لهجة خاصة ببلدة اليعربية وكانت لهجة عجيبة غريبة تختلف عن كل اللهجات السورية وخاصة عن لهجتي أهل القامشلي والمالكية التي كان يتكلم الكثير من أهل هاتين المدينتين العربية وبلهجة قريبة جداً من المحلمية ، وكانت تختلف أيضا عن لهجتي (المحلمية) التي كنا نتعامل بها هناك أنا وأعمامي وأولادهم فقط ، وكثيرا ما كنت أجد حرجا عند التحدث بها مع الآخرين في تلك البلدة وخاصة الأطفال الأكبر مني سناً الذين كانوا يعلقون عليها بعبارة اتذكرها إلى اليوم وهي : "اعطيْني فرنكي1 اعطيْني فرنكي أضحك عليْكي " و(قيْ مو تقول قيْ )2 و( أين تروح ورك) أي ولك وغيرها من التعليقات ، وهذا الإختلاف اللهجوي بيني وبينهم كان يجعلني أشعر بشيء ما في داخلي يبعدني أو يفرقني عن البعض منهم وخاصة من كانت لهجته البيتية بعيدة جداً عن لهجتي ..وما كان يغيظني أكثر هو بعض الأطفال المحلميين والماردينيين الذين كانوا يتكلمون معي بلهجة البلد ويتجنبون التحدث بالمحلمية تجنبا لتعليقات الأطفال الكبار عليهم .
واستمر الوضع على ما هو عليه حتى تمكنت بعد فترة وجيزة من تعلم لهجة البلد المعقدة وأخذت أتعامل بها مع الآخرين واستمر الوضع على ما هو عليه حتى دخلت المدرسة وكنا حينها في غرفة الصف عندما نهض طالب غريب له ملامح قريبة من ملامحنا ليجيب على اسئلة معلم الصف وكان يتكلم بلهجة غريبة عن لهجة أهل البلد وقريبة من لهجتي ففرحت حينها كثيرا وانتظرت انتهاءالدرس بفارغ الصبر لأذهب إليه ، وذهبت ومعي ابن عمي وسألته حينها : " انت محلمي"
فقال لنا وبلهجة قريبة جداَ من لهجتنا : أيْش يعني محلمي"
فقلنا له : يعني كمانا .
فلم يكن يفهم حينها ما نقصد ، ولكنه أجابنا عندما سألناه وبنفس اللهجة : من أين أنت ؟
فقال : أنا آزخيني من ديريك . ولم نكن نعرف نحن أيضا حينها ما معنى كلمة آزخيني ، وعندما عدتُ إلى البيت سألت ميمتي (جدتي) رحمة الله عليها قائلاً : "ميمة أيْش يعني آزخيني"
قالت : "يعني نصارى يحكون كمانا" .
فقلت لها : ومن اين تعرفيين .
قالت : "وخت كنا نطلع للبلد (أي للضيعة في تركية) أنا وابوك واعمامك مشي كنا نفوت على ضيعتن آزخ لأنن كا يفهمون علينا ونفهم علين ونبات عندن أو نرتاح وبعدين نكمل " وعندما عدت إلى المدرسة في اليوم التالي التقيت بذلك الطفل وأخذت اتحادث معه وكنت أفهم كل ما كان يقول على الرغم من لفظه بعض الكلمات بطريقة مختلفة عن لفظنا لها نحن المحلميون إلا أنني احسست حينها أن هناك شيء غريب يجمعني به ويجمعه بي وهو اللهجة الواحدة التي ساهمت آنفاً في تكوين صداقة وطيدة بيني وبيني ذلك الطفل تطورت لتشمل اسرتينا أيضاً وعندما كانت تحصل بعض المشاحنات اللهجوية بيننا وبين أطفال يتكلمون لهجة أخرى كان يقوم كلانا بالدفاع عن لهجتنا والتهكم بلهجاتهم .
وعلى الرغم من قصر مدة تلك الصداقة بسبب عودته وأهله السريعة إلى ديريك لأسباب وظائفية إلا أنها تركت في نفسي أثرا لا يمكن إغفاله أو نسيانه إلى اليوم على الرغم من مرور كل ذلك الزمن الطويل عليها ، ومع هذا مازالت هذه الظاهرة تلازمنا نحن جميعاً إلى اليوم فكثيرا ما نسلط آذاننا ونفتحها عندما نسمع لحن لهجتنا يجلجل في مكان نحن فيه وخاصة في مكان يتكلم أهله فيه لهجة أو لغة مغايرة للهجتنا أو لغتنا فينتابنا شعور مفاجئ وغريب لمجرد سماعنا إياها ونلتفت مباشرة نحو مصدر قدومها وبصورة لا إرادية نعطي المتحدثين بها على وجه السرعة إشارات من طرفنا لنلفت انتباههم هم أيضا نحونا وذلك من خلال فتح افواهنا والتحدث (شيش بيش) مع من يرافقنا وبصوت عال لنقول لهم من خلال هذا التصرف بأننا نحن ايضا من أصحاب هذه اللهجة . فيمكننا ومن هنا القول أن للهجة دور كبير ومميز في جمع الناس وتقريبهم على الرغم من إختلافهم على أمور أخرى .
________________________________
1 - الفرنك: عملة سورية كانت تساوي خمسة قروش .
2- قيْ : لفظة سريانية الأصل تعني لماذا .
عبد القادر عثمان
http://www.almuhallamia.com/
فأذكر عندما كنت أخرج في بداية طفولتي لألعب مع الأولاد في بلدتي (اليعربية )1 كنت اسمع هؤلاء الأطفال يتكلمون لهجة مختلفة عن لهجتي مع أن أجدادي كانوا من مؤسسي هذه البلدة التي اُطلـِق عليها في البداية اسم (تل كوجر) نسبة إلى أكراد الكوجر الذين كانوا يأتونها من المناطق القريبة من (رميلان) ويتجمعون فيها لبيع مشتقاتهم الحيوانية من أجبان وألبان وبيض والتي أصبح اسمها فيما بعد (اليعربية .
وكانت هذه البلدة مزيج من عمال وموظفي السكك الحديدية والدرك والهجانة فمنهم المحلمي والحلبي والديري والسرياني (توخ لركي) والأرمني والكردي والتركماني والعنزي وغيرهم ممن أمتزجت لهجاتهم ولكناتهم مع بعضها وتزاوجت فيما بينها حتى تمخض عنها لهجة خاصة ببلدة اليعربية وكانت لهجة عجيبة غريبة تختلف عن كل اللهجات السورية وخاصة عن لهجتي أهل القامشلي والمالكية التي كان يتكلم الكثير من أهل هاتين المدينتين العربية وبلهجة قريبة جداً من المحلمية ، وكانت تختلف أيضا عن لهجتي (المحلمية) التي كنا نتعامل بها هناك أنا وأعمامي وأولادهم فقط ، وكثيرا ما كنت أجد حرجا عند التحدث بها مع الآخرين في تلك البلدة وخاصة الأطفال الأكبر مني سناً الذين كانوا يعلقون عليها بعبارة اتذكرها إلى اليوم وهي : "اعطيْني فرنكي1 اعطيْني فرنكي أضحك عليْكي " و(قيْ مو تقول قيْ )2 و( أين تروح ورك) أي ولك وغيرها من التعليقات ، وهذا الإختلاف اللهجوي بيني وبينهم كان يجعلني أشعر بشيء ما في داخلي يبعدني أو يفرقني عن البعض منهم وخاصة من كانت لهجته البيتية بعيدة جداً عن لهجتي ..وما كان يغيظني أكثر هو بعض الأطفال المحلميين والماردينيين الذين كانوا يتكلمون معي بلهجة البلد ويتجنبون التحدث بالمحلمية تجنبا لتعليقات الأطفال الكبار عليهم .
واستمر الوضع على ما هو عليه حتى تمكنت بعد فترة وجيزة من تعلم لهجة البلد المعقدة وأخذت أتعامل بها مع الآخرين واستمر الوضع على ما هو عليه حتى دخلت المدرسة وكنا حينها في غرفة الصف عندما نهض طالب غريب له ملامح قريبة من ملامحنا ليجيب على اسئلة معلم الصف وكان يتكلم بلهجة غريبة عن لهجة أهل البلد وقريبة من لهجتي ففرحت حينها كثيرا وانتظرت انتهاءالدرس بفارغ الصبر لأذهب إليه ، وذهبت ومعي ابن عمي وسألته حينها : " انت محلمي"
فقال لنا وبلهجة قريبة جداَ من لهجتنا : أيْش يعني محلمي"
فقلنا له : يعني كمانا .
فلم يكن يفهم حينها ما نقصد ، ولكنه أجابنا عندما سألناه وبنفس اللهجة : من أين أنت ؟
فقال : أنا آزخيني من ديريك . ولم نكن نعرف نحن أيضا حينها ما معنى كلمة آزخيني ، وعندما عدتُ إلى البيت سألت ميمتي (جدتي) رحمة الله عليها قائلاً : "ميمة أيْش يعني آزخيني"
قالت : "يعني نصارى يحكون كمانا" .
فقلت لها : ومن اين تعرفيين .
قالت : "وخت كنا نطلع للبلد (أي للضيعة في تركية) أنا وابوك واعمامك مشي كنا نفوت على ضيعتن آزخ لأنن كا يفهمون علينا ونفهم علين ونبات عندن أو نرتاح وبعدين نكمل " وعندما عدت إلى المدرسة في اليوم التالي التقيت بذلك الطفل وأخذت اتحادث معه وكنت أفهم كل ما كان يقول على الرغم من لفظه بعض الكلمات بطريقة مختلفة عن لفظنا لها نحن المحلميون إلا أنني احسست حينها أن هناك شيء غريب يجمعني به ويجمعه بي وهو اللهجة الواحدة التي ساهمت آنفاً في تكوين صداقة وطيدة بيني وبيني ذلك الطفل تطورت لتشمل اسرتينا أيضاً وعندما كانت تحصل بعض المشاحنات اللهجوية بيننا وبين أطفال يتكلمون لهجة أخرى كان يقوم كلانا بالدفاع عن لهجتنا والتهكم بلهجاتهم .
وعلى الرغم من قصر مدة تلك الصداقة بسبب عودته وأهله السريعة إلى ديريك لأسباب وظائفية إلا أنها تركت في نفسي أثرا لا يمكن إغفاله أو نسيانه إلى اليوم على الرغم من مرور كل ذلك الزمن الطويل عليها ، ومع هذا مازالت هذه الظاهرة تلازمنا نحن جميعاً إلى اليوم فكثيرا ما نسلط آذاننا ونفتحها عندما نسمع لحن لهجتنا يجلجل في مكان نحن فيه وخاصة في مكان يتكلم أهله فيه لهجة أو لغة مغايرة للهجتنا أو لغتنا فينتابنا شعور مفاجئ وغريب لمجرد سماعنا إياها ونلتفت مباشرة نحو مصدر قدومها وبصورة لا إرادية نعطي المتحدثين بها على وجه السرعة إشارات من طرفنا لنلفت انتباههم هم أيضا نحونا وذلك من خلال فتح افواهنا والتحدث (شيش بيش) مع من يرافقنا وبصوت عال لنقول لهم من خلال هذا التصرف بأننا نحن ايضا من أصحاب هذه اللهجة . فيمكننا ومن هنا القول أن للهجة دور كبير ومميز في جمع الناس وتقريبهم على الرغم من إختلافهم على أمور أخرى .
________________________________
1 - الفرنك: عملة سورية كانت تساوي خمسة قروش .
2- قيْ : لفظة سريانية الأصل تعني لماذا .
عبد القادر عثمان
http://www.almuhallamia.com/
الخميس يوليو 25, 2019 12:37 am من طرف ياتي
» اين هم بنو تغلب اليوم؟
الخميس يوليو 25, 2019 12:29 am من طرف ياتي
» نحن بنو محلّم بن ذهل بن شيبان
الثلاثاء يونيو 25, 2019 5:21 pm من طرف Admin
» هل هذه الاشعار للهجتنا المحلمية؟
الثلاثاء يونيو 25, 2019 5:18 pm من طرف Admin
» كلام يجب أن يُقال!
الثلاثاء يونيو 25, 2019 5:16 pm من طرف Admin
» الفرع هو الذي يتبع الأصل
الثلاثاء يونيو 25, 2019 5:14 pm من طرف Admin
» الكوسوسية في طور عابدين
الثلاثاء يونيو 25, 2019 5:13 pm من طرف Admin
» باعربايا في المصادر التاريخية
الجمعة ديسمبر 28, 2018 6:06 pm من طرف Admin
» العرب بين التاريخ والجغرافية
الجمعة ديسمبر 28, 2018 6:03 pm من طرف Admin
» هل المحلمية قبيلة قائمة بحد ذاتها أم منطقة يُقال لكل من يسكنها محلّمي؟
الأحد نوفمبر 04, 2018 11:52 pm من طرف Admin
» بيت شعر للشيخ يونس بن يوسف الشيباني باللهجة المحلمية
الأحد نوفمبر 04, 2018 11:49 pm من طرف Admin
» السريانية كنيسة وليست قومية
الأحد نوفمبر 04, 2018 11:47 pm من طرف Admin
» وفاة شيخ قبيلة المحلمية رفعت صبري ابو قيس
الأحد نوفمبر 05, 2017 10:56 am من طرف ابن قيس المحلمي
» السلام عليكم
الإثنين أغسطس 21, 2017 11:03 pm من طرف narimen boudaya
» المجموعة الكاملة للفنان جان كارات
الأربعاء يونيو 28, 2017 1:23 am من طرف nadanadoz