أثر التغيّر المناخي على بيت محلّم
بينما أبناء منطقة بيت محلّم مشغولون بهمومهم اليومية ، ومبهورون بما توصّلت له التكنولوجيا من وسائل ومنتجات تساعدهم على تخطّي مصاعب الأعمال اليومية ، وتوفّر لهم التسلية والمتعة و الراحة من المشقّات التي كانوا يعانون منها في تدبيرهم المنزلي و زراعتهم وتربيتهم للمواشي وتجارتهم و صناعتهم إن وجدت أو المقتصرة على الإنتاج الحيواني والحرفي ، وما قدّمت لهم من انفتاح على محيطهم وبالأخص الداخل التركي من الوسط والغرب المتقدم في النمو والتطور ، وفرحين بالإنفتاح السياسي على منطقتهم و بالتالي الإنعكاس الإيجابي على صعيد الإنماء المتوازن وإعطاء الحقوق على أنواعها ، ممّا سيؤدي بل أدّى لإزدهار المنطقة عمرانياً واقتصادياً، وفخورون بكون عاصمتهم التجارية مديات واستطراداً أستل، تعدّ المدينة أو البلدة الرابعة على صعيد نمو المدن من بين 80 مدينة تركية . يغفل أبناء محلّم وأقاربهم الراشدية والمخاشنية والماردينية عن ما يحصل من تدهور لبيئتهم ومحيطهم الطبيعي وأثر التغير المناخي في القرن الواحد والعشرين على صحّتهم وحياتهم في المستقبل ، وذلك دون ذكر جهل معظمهم بهذه الأمور .
هذا التغيّر المناخي الذي تجلّت صوره بظهور ظاهرة التصحّر وامتدادها لقراهم وبلداتهم ، كذلك ظهور مواسم جفاف وقلّة تساقط الأمطار والثلوج في المواسم الماضية ، وارتفاع درجات الحرارة في الصيف يصاحبه شح في موارد المياه خصوصاً المقدّمة من الدولة وبالتالي ازدياد حالات الحرائق في الأراضي والتلال وعدم القدرة على احتوائها سريعاً لضعف تجهيزات البلديات بسبب انشغال القيمين عليها بفبركة الطرق التي ستؤمن لهم الربح الخاص والسريع من مقدّرات البلدية المادية بالإضافة لعدم اهتمامهم وغياب الحسّ بالمسؤولية، وانخفاض درجات الحرارة في الشتاء يصاحبه موجات صقيع تغيب عنها معدلات تساقط الأمطار والثلوج المعهودة ، أو تأخر موسم الأمطار مثلما حدث العام الما قبل الماضي وبالتالي حدوث أضرار في المزروعات وخسائر مادية تطال المزارعين. هذا ناهيك في أحياناً أخرى عن سقوط سيول مفاجئة وبكمية كبيرة وفي وقت قصير يؤدي إلى تجمع الماء في مكان معين وعدم توزعه على الأراضي بشكل أكثر توازناً مثلما حصل في موجة السيول الأخيرة التي ضربت المحافظات الجنوبية الشرقية ، وما أدت إليه أيضاً من أضرار في الممتلكات. كل هذا إضافة إلى عوامل وظواهر طبيعية أخرى لا مجال لذكر كلّها الآن .
ولكن ما يهمنّا نحن هو انعكاس هذه الظواهر على إنتاجية أراضينا الزراعية ، والتي يقتات معظم أبناء منطقتنا منها وقد تكون مصدر الرزق الوحيد للعديد من العائلات ، فالكثير من هذه العائلات خصوصاً أهل القرى الصغيرة والمفتقرة للتنمية يعتمد على زراعة الأراضي بالقمح والخضروات والفاكهة لسد رمقها ، أو حتى بيع ما تبقى لتأمين حاجاتها الإستهلاكية الثانوية. هذه الإنتاجية التي تراجعت بسبب مد ظاهرة التصحر على قراهم وأراضيهم بسبب عوامل عدّة ، وافتقار التربة للمعادن الضرورية لتأمين ظروف نمو ملائمة للمزروعات وتراجع معدل رطوبة التربة وزيادة ملوحتها وقلّة الموارد المائية لسقاية المزروعات . وما يهمنا أيضاً هو إختفاء طبقة الأعشاب التي تغطي هضابنا وتلالنا في الربيع والصيف والتي تقتات المواشي منها ، إن لوفرتها ومجانيتها أو لعدم قدرة مربي المواشي على شراء الأعلاف . وبالتالي تراجع إنتاجية المواشي من الحليب واستطراداً مشتقات الحليب من ألبان وأجبان مما يضيف أعباء مادية أخرى على الفرد المحلمي لسد حاجات عائلته من الغذاء ، أو خراب تجارته إن كان معتمداً على بيع الحليب لجيرانه . ولا تقتصر الأضرار على هذا الأمر بل يذهب لنتيجة مأساوية أخرى هو موت العديد من قطعان المواشي إن بسبب قلّة الكلأ أو بسبب موجات الحر وهذا ما حدث العام الماضي في العديد من قرانا ، حيث تعرّض العديد من مربي المواشي لخسائر فادحة ، دفعتهم بجمع جثث المواشي ورميها في الجبال بدلاً من الإستفادة من لحومها وألبانها ، خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء حيث تذبح وتملّح وتخزّن لإستعمالها إضافة للحبوب المخزنة من حنطة وقمح وبرغل طوال أشر الشتاء القاسي حيث تفقد الخضروات إلا المخلّلة منها، حيث تسمىّ هذه اللحوم المملّحة بالقليّة .
ليس المهم معرفة هذه الظواهر والإستعلام عنها والتركيز عليها بقدر أهمية معرفة ما سببها ومن المسؤول عنها ، هل هو تغيّر المناخ مع العصور أم هناك مسبّب آخر ؟
المسبّب والمسؤول الأول والأخير عن هذه الظواهر المناخية هو الإنسان ، وذلك بسبب طريقة حياته المستجدّة والجانحة نحو الإستهلاكية المفرطة ، والنزعة نحو الربح السريع الغير أخلاقي والمتفلّت من كل ضوابط ، هذه النزعة التي سببّتها العولمة المعاصرة . فبلدنا تركيا بلد ناشء متّجه نحو الصناعية ونظامه الإقتصادي رأسمالي ليبرالي تسعى القوى النيوليبرالية لضمّ اقتصادييه وقياداته السياسية لمدرستها الفكرية . وبالتالي تسعى الشركات الكبرى في تركيا لإيجاد أسواق جديدة وهذه الأسواق الجديدة والغنية بالفرص هي المحافظات الجنوبية الشرقية ومنها محافظتنا ماردين ، حيث تتلازم توسع مجالات ونطاق عملها مع توسّع مشاريع الدولة الإنمائية في هذه المحافظات . فعلى سبيل المثال تهرع شركات الهواتف المحمولة لنصب عواميد إرسالها بجانب القرى والبلدات والمواطن يغفل عن أثر هذه الذبذبات على صحة الإنسان والتي قد تؤدي لأمراض سرطانية كذلك أثر التوتر الكهربائي الآتي من إعمدة الكهرباء على جسم الإنسان والحيوان حيث ترعى المواشي تحت الأعمدة ويلعب الأطفال بجانبها . كذلك الإنفجار العمراني الحاصل حيث كثرت المشاريع السكنية في في مدينة مديات وغيرها بما يزيد عن الطلب إضافةً لإستنزافها للمياه الجوفية حيث يحفر بئر ماء لكل مبنى ، وحيث معظم الشارين من المهاجرين ، والتي تمتد لخارجها وبشكل مطّرد وما يعني ذلك من قربها لقرانا وبلداتنا وتداخلها معها ما سينعكس على خصوصيتنا وتواجدنا ، حيث يتنوع خلفية الشارين لهذه المباني وتتعدّد طموحاتهم . كذلك إستعمال مواد صناعية جديدة في البناء مختلفة عن المواد المعتمدة في البناء قديماً مما سينعكس على البيئة واستنزافها حيث تصنع بعضها في محافظتنا ، كذلك إستزاف جبال ماردين من قبل الكسارات حيث تحول إلى مرامل و تسخدم في صناعة الإسمنت (أوأحجار البناء في قضاء مديات)، فيتحول أبنائنا من الزراعة لقيادة الآليات لنقل الإنتاج من الإسمنت وبالتالي إستخدام شاحنات ملوثة ومضرة بالبيئة ويتغير أسلوب حياة أهل المنطقة مثل ما حصل مع أبناء بلدة قبالا، حيث يعمل معظمهم في هذا المجال، إضافة لوفود عمّال من خارج البلدة والمنطقة للعمل في هذه المعامل والمصانع ومن ثم تتغير هوية البلدة الإثنية ، وهذا ما يحصل في قبالا. كذلك إزدياد الإعتماد على وسائل النقل الخاصة مؤخراً خصوصاً الدراجات النارية والتخلّي عن ركوب الحيوانات والتي كانت أقل كلفة وأكثر فائدة للبيئة، عكس الدراجات التي تكلّف أكثر و تلوّث بيئياً وسمعياً .
مشكلة جديدة ظهرت في منطقتنا هي ظاهرة النفايات المرمية بشكل عشوائي في محيط القرى ، من دون جمعها في مكان معين بعيد عن البلدة وبعيد عن أماكن وجود آبار المياه كي لا تتلوث ، والعديد من هذه النفايات هي مواد بلاستيكية و ما شابه غير قابلة للتدوير وتساهم في ظاهرة الإحتباس الحراري وارتفاع درجات الحرارة بسبب بثها لإشعاعات أثناء تحللها وقد تصل رواسبها للمياه الجوفية . وهذا ما يفسّر ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض لم يعرفها الآباء والأجداد . والمحزن أنه ليس للبلديات سياسة معينة للإهتمام بهذه النفايات لا من ناحية جمعها في مكان واحد أونقلها لمطامر صحية أو فصل المواد حسب نوعها أو من ناحية التنسيق مع مركز القضاء أو المحافظة في هذا الشأن، بل تكتفي بتكليف رجل بسيط صاحب جرّار زراعي بجمع النفايات من المنازل فيقوم برميها في أقرب مكان توفيراً للوقت و المحروقات من دون علمه بعاقبة هذا الأمر.
هذا ويتحمّل المواطن المحلّمي مسؤولية أيضاً في تدهور البيئة من حوله ، فظاهرة قطع الأشجار وجمع الحطب بطريقة عشوائية ومن دون رقابة - وإن وجدت فتأتي متأخرة - منتشرة بين الناس ، فالكثير من المحلمية عكف عبر العقود بل القرون الماضية إلى قطع الأشجار سعياً لتأمين حطباً يؤمن له ولعائلته التدفئة في فصل الشتاء ، من دون الإنتباه أو جهل بدور الأشجار في حماية البيئة والحفاظ على توازن النظام والمنظومة الأيكولوجية ، حتى أصبحت هضابنا وتلالنا شبه جرداء من دون معالم تكاد تكون مملّة وبسيطة ، فأصبح بيت محلّم - إذا نظرنا لطبيعته الطوبوغرافية والجغرافية من سهل أو واد تحيطه من كل إتجاهاته جبال ماردين والصور ومحافظة باتمان وقضاء نصيبين على الحدود التركية السورية – من واد ذي زرعٍ إلى واد غير ذي زرعٍ ، يكاد يضربه القحط إذا استمرينا على هذه الحال . كذلك توجّه العديد من رجالنا وشبابنا إلى العمل في قطع الأشجار في حال أصابتهم البطالة كي يؤمنوا قوت يومهم ، فأصبحت مهنة موسمية منتشرة بين الناس. هذا الجهل بأهمية الأشجار فيما يتعلق بالحفاظ على البيئة وذلك عبر محاربتها التصحّر عبر تشكيلها لسد منيع أمام حمل الرياح للأتربة و تشبّث جذورها بالتربة فتمنع الإنزلاقات وقدرتها على تخزين المياه وبكميات كبيرة قد تصل إلى آلاف الليترات وذلك طبعاً حسب حجمها ، أيضاً دورها في تنقية التربة والحفاظ على رطوبتها وتنقية المياه فتحافظ على المياه الجوفية نظيفة ، وهذا ما بدأنا نفتقده في منطقتنا والمعروفة بوفرة مياهها الجوفية حيث تنتشر الآبار الطبيعية في الجبال والوديان وتبقى ملأة طوال العام ، أما الآن فقد نضبت العديد من الآبار وتلوثت أخرى ، وزادت ملوحة التربة واختفت العديد من أنواع النباتات والتي تتميز بها منطقتنا بها لكونها مثمرة ولا تستهلك الكثير من المياه .
ليس التمدّن والنمو الإقتصادي والسكاني المسؤول الوحيد عن التغير المناخي في بيت محلّم ومحافظة ماردين ، بل أيضاً حكومة حزب العدالة والتنمية للحكم ، هذه الحكومة التي حققت أرقاماً قياسية في النمو خلال فترة زمنية قصيرة وطبّقت مفهوم توزيع الثروات العادل والدخل على المواطنين كافة ومن دون تمييز فقامت بصرف راتب شهري للعاطلين عن العمل و للزوجات وللأولاد التلاميذ منهم والرضّع ، وغيرها من التقديمات الإجتماعية والصحية المجانية ، كذلك تقدمة حصّة سنوية من الإعاشات و الفحم للتدفئة مجّاناً مما ساهم في زيادة التلوث كون إحتراق الحطب الطبيعي أخف ضرراً من الفحم المحروق صناعياً ويحتوي على نسبة كربون أعلى ، كذلك ساهمت هذه الأمور بإنشاء فئة من الرجال والشباب كسولة تتسكّع عند مسجد القرية ، وإن طلبت خدماتهم تلكّأوا لأنهم يعتمدون على التقديمات الإجتماعية لسد الحاجات الأساسية لعائلاتهم ، فئة مستهلكة غير منتجة فهملت زراعة الأراضي وتربية الحيوانات واعتمدت على شراء البضائع الجاهزة ، وترتيب الدين على أنفسهم كون الإنسان ضعيف أمام نفسه وشهواته و غيّور .
كل هذا انعكس اهمالاً للأرض التي زرعها أجدادنا منذ قرون وبذلوا فيها الجهد وأراقوا فيها العرق والدماء للمحافظة عليها ، لأنهم عرفوا قيمتها أكثر منا وللأسف ، نحن الذين أضعنا الثروة الطبيعية التي أورثونا إياها والتي يتمناها ويحسدنا غيرنا من العرب عليها . الحل هو بتوعية أهلنا في بيت محلّم لهذه المخاطر التي يتكون لها عواقب وخيمة على حياتهم وصحتهم وصحة أولادهم ، هذا الموضوع الذي يشغل العالم وتتداوله المؤتمرات والندوات الدولية وآخرها مؤتمر كوبنهاغن الذائع الصيت . علينا إعتماد وسائل التنمية المستدامة بأبعادها البيئية والإقتصادية والإجتماعية والبشرية ، والتي تندرج من ضمنها أسلوب حياة عرفه آبائنا وأجدادنا منذ القدم وهو الإستهلاك الرشيد والإهتمام بالأرض والتخفيف من الإنبعاثات وإستعمال الحيوانات في النقل والإستهلاك والإبتعاد عن إستهلاك الكماليات والإنتباه لزراعتنا العضوية البعيدة عن كل المواد والأسمدة الكيماوية ، فمنطقتنا تعرف بكونها من المناطق النادرة التي ما زالت تزرع حسب الطريقة القديمة الطبيعية الخالية من المواد السامة حيث تعلف الحيوانات من الجبال تأكل العشب الطبيعي ، وهذا ما دفع بالسعودية لطلب احتياجاتها من اللحوم من منطقتنا لجودتها ونظافتها ، و تقديم الإمارات العربية المتحدة مبلغ 3 مليار دولار لتمنية هذه المناطق زراعياً والإستيراد منها ، كذلك دعم الإتحاد الأوروبي لهذه المنطقة ضمن مشروع الجاب حيث ستكون هذه المنطقة وتركيا المجال الحيوي لأوروبا في المستقبل تأكل من إنتاجها ، وفي موضوع ذي صلة إكتشفوا في الولايات المتحدة الأميركية في ولاية كاليفورنيا أن أزدياد معدلات الحرائق فيها ناتج عن إحتراق الأعشاب اليابسة فيها بسبب وجود عوامل مساعدة للإشتعال بسبب طبيعة الولاية وتمدّنها ، فوجدوا أن السبب هو انتشار هذه الأعشاب وبكثرة وغياب الجهود لإزالتها فرأوا أن الحل الأنسب هو العودة إلى الماضي وترك المهمة للمواشي فقام القيمين على الولاية بإستئجار المواشي وإطلاقها في الهضاب لأكل الأعشاب كذلك للإستفادة من سمادهم الطبيعي وفوائده للتربة و الزرع.
في النهاية أقول ، كان أجدادنا يأكلون من ما يزرعون .. ويلبسون من ما يحيكون.. ويبيعون من ما ينتجون وهذا أمّن بقائهم واستقلاليتهم وركّزهم في أرضهم وحافظ على ثقافتهم وعاداتهم .. أما اليوم فالعكس هو الواقع .. فأتمنى أن لا يتطبّق فينا القول التالي : "ويلٌ لأمّة تأكل من ما لا تزرع .. وتلبس من ما لا تصنع (أو تنسج) ... " .
بينما أبناء منطقة بيت محلّم مشغولون بهمومهم اليومية ، ومبهورون بما توصّلت له التكنولوجيا من وسائل ومنتجات تساعدهم على تخطّي مصاعب الأعمال اليومية ، وتوفّر لهم التسلية والمتعة و الراحة من المشقّات التي كانوا يعانون منها في تدبيرهم المنزلي و زراعتهم وتربيتهم للمواشي وتجارتهم و صناعتهم إن وجدت أو المقتصرة على الإنتاج الحيواني والحرفي ، وما قدّمت لهم من انفتاح على محيطهم وبالأخص الداخل التركي من الوسط والغرب المتقدم في النمو والتطور ، وفرحين بالإنفتاح السياسي على منطقتهم و بالتالي الإنعكاس الإيجابي على صعيد الإنماء المتوازن وإعطاء الحقوق على أنواعها ، ممّا سيؤدي بل أدّى لإزدهار المنطقة عمرانياً واقتصادياً، وفخورون بكون عاصمتهم التجارية مديات واستطراداً أستل، تعدّ المدينة أو البلدة الرابعة على صعيد نمو المدن من بين 80 مدينة تركية . يغفل أبناء محلّم وأقاربهم الراشدية والمخاشنية والماردينية عن ما يحصل من تدهور لبيئتهم ومحيطهم الطبيعي وأثر التغير المناخي في القرن الواحد والعشرين على صحّتهم وحياتهم في المستقبل ، وذلك دون ذكر جهل معظمهم بهذه الأمور .
هذا التغيّر المناخي الذي تجلّت صوره بظهور ظاهرة التصحّر وامتدادها لقراهم وبلداتهم ، كذلك ظهور مواسم جفاف وقلّة تساقط الأمطار والثلوج في المواسم الماضية ، وارتفاع درجات الحرارة في الصيف يصاحبه شح في موارد المياه خصوصاً المقدّمة من الدولة وبالتالي ازدياد حالات الحرائق في الأراضي والتلال وعدم القدرة على احتوائها سريعاً لضعف تجهيزات البلديات بسبب انشغال القيمين عليها بفبركة الطرق التي ستؤمن لهم الربح الخاص والسريع من مقدّرات البلدية المادية بالإضافة لعدم اهتمامهم وغياب الحسّ بالمسؤولية، وانخفاض درجات الحرارة في الشتاء يصاحبه موجات صقيع تغيب عنها معدلات تساقط الأمطار والثلوج المعهودة ، أو تأخر موسم الأمطار مثلما حدث العام الما قبل الماضي وبالتالي حدوث أضرار في المزروعات وخسائر مادية تطال المزارعين. هذا ناهيك في أحياناً أخرى عن سقوط سيول مفاجئة وبكمية كبيرة وفي وقت قصير يؤدي إلى تجمع الماء في مكان معين وعدم توزعه على الأراضي بشكل أكثر توازناً مثلما حصل في موجة السيول الأخيرة التي ضربت المحافظات الجنوبية الشرقية ، وما أدت إليه أيضاً من أضرار في الممتلكات. كل هذا إضافة إلى عوامل وظواهر طبيعية أخرى لا مجال لذكر كلّها الآن .
ولكن ما يهمنّا نحن هو انعكاس هذه الظواهر على إنتاجية أراضينا الزراعية ، والتي يقتات معظم أبناء منطقتنا منها وقد تكون مصدر الرزق الوحيد للعديد من العائلات ، فالكثير من هذه العائلات خصوصاً أهل القرى الصغيرة والمفتقرة للتنمية يعتمد على زراعة الأراضي بالقمح والخضروات والفاكهة لسد رمقها ، أو حتى بيع ما تبقى لتأمين حاجاتها الإستهلاكية الثانوية. هذه الإنتاجية التي تراجعت بسبب مد ظاهرة التصحر على قراهم وأراضيهم بسبب عوامل عدّة ، وافتقار التربة للمعادن الضرورية لتأمين ظروف نمو ملائمة للمزروعات وتراجع معدل رطوبة التربة وزيادة ملوحتها وقلّة الموارد المائية لسقاية المزروعات . وما يهمنا أيضاً هو إختفاء طبقة الأعشاب التي تغطي هضابنا وتلالنا في الربيع والصيف والتي تقتات المواشي منها ، إن لوفرتها ومجانيتها أو لعدم قدرة مربي المواشي على شراء الأعلاف . وبالتالي تراجع إنتاجية المواشي من الحليب واستطراداً مشتقات الحليب من ألبان وأجبان مما يضيف أعباء مادية أخرى على الفرد المحلمي لسد حاجات عائلته من الغذاء ، أو خراب تجارته إن كان معتمداً على بيع الحليب لجيرانه . ولا تقتصر الأضرار على هذا الأمر بل يذهب لنتيجة مأساوية أخرى هو موت العديد من قطعان المواشي إن بسبب قلّة الكلأ أو بسبب موجات الحر وهذا ما حدث العام الماضي في العديد من قرانا ، حيث تعرّض العديد من مربي المواشي لخسائر فادحة ، دفعتهم بجمع جثث المواشي ورميها في الجبال بدلاً من الإستفادة من لحومها وألبانها ، خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء حيث تذبح وتملّح وتخزّن لإستعمالها إضافة للحبوب المخزنة من حنطة وقمح وبرغل طوال أشر الشتاء القاسي حيث تفقد الخضروات إلا المخلّلة منها، حيث تسمىّ هذه اللحوم المملّحة بالقليّة .
ليس المهم معرفة هذه الظواهر والإستعلام عنها والتركيز عليها بقدر أهمية معرفة ما سببها ومن المسؤول عنها ، هل هو تغيّر المناخ مع العصور أم هناك مسبّب آخر ؟
المسبّب والمسؤول الأول والأخير عن هذه الظواهر المناخية هو الإنسان ، وذلك بسبب طريقة حياته المستجدّة والجانحة نحو الإستهلاكية المفرطة ، والنزعة نحو الربح السريع الغير أخلاقي والمتفلّت من كل ضوابط ، هذه النزعة التي سببّتها العولمة المعاصرة . فبلدنا تركيا بلد ناشء متّجه نحو الصناعية ونظامه الإقتصادي رأسمالي ليبرالي تسعى القوى النيوليبرالية لضمّ اقتصادييه وقياداته السياسية لمدرستها الفكرية . وبالتالي تسعى الشركات الكبرى في تركيا لإيجاد أسواق جديدة وهذه الأسواق الجديدة والغنية بالفرص هي المحافظات الجنوبية الشرقية ومنها محافظتنا ماردين ، حيث تتلازم توسع مجالات ونطاق عملها مع توسّع مشاريع الدولة الإنمائية في هذه المحافظات . فعلى سبيل المثال تهرع شركات الهواتف المحمولة لنصب عواميد إرسالها بجانب القرى والبلدات والمواطن يغفل عن أثر هذه الذبذبات على صحة الإنسان والتي قد تؤدي لأمراض سرطانية كذلك أثر التوتر الكهربائي الآتي من إعمدة الكهرباء على جسم الإنسان والحيوان حيث ترعى المواشي تحت الأعمدة ويلعب الأطفال بجانبها . كذلك الإنفجار العمراني الحاصل حيث كثرت المشاريع السكنية في في مدينة مديات وغيرها بما يزيد عن الطلب إضافةً لإستنزافها للمياه الجوفية حيث يحفر بئر ماء لكل مبنى ، وحيث معظم الشارين من المهاجرين ، والتي تمتد لخارجها وبشكل مطّرد وما يعني ذلك من قربها لقرانا وبلداتنا وتداخلها معها ما سينعكس على خصوصيتنا وتواجدنا ، حيث يتنوع خلفية الشارين لهذه المباني وتتعدّد طموحاتهم . كذلك إستعمال مواد صناعية جديدة في البناء مختلفة عن المواد المعتمدة في البناء قديماً مما سينعكس على البيئة واستنزافها حيث تصنع بعضها في محافظتنا ، كذلك إستزاف جبال ماردين من قبل الكسارات حيث تحول إلى مرامل و تسخدم في صناعة الإسمنت (أوأحجار البناء في قضاء مديات)، فيتحول أبنائنا من الزراعة لقيادة الآليات لنقل الإنتاج من الإسمنت وبالتالي إستخدام شاحنات ملوثة ومضرة بالبيئة ويتغير أسلوب حياة أهل المنطقة مثل ما حصل مع أبناء بلدة قبالا، حيث يعمل معظمهم في هذا المجال، إضافة لوفود عمّال من خارج البلدة والمنطقة للعمل في هذه المعامل والمصانع ومن ثم تتغير هوية البلدة الإثنية ، وهذا ما يحصل في قبالا. كذلك إزدياد الإعتماد على وسائل النقل الخاصة مؤخراً خصوصاً الدراجات النارية والتخلّي عن ركوب الحيوانات والتي كانت أقل كلفة وأكثر فائدة للبيئة، عكس الدراجات التي تكلّف أكثر و تلوّث بيئياً وسمعياً .
مشكلة جديدة ظهرت في منطقتنا هي ظاهرة النفايات المرمية بشكل عشوائي في محيط القرى ، من دون جمعها في مكان معين بعيد عن البلدة وبعيد عن أماكن وجود آبار المياه كي لا تتلوث ، والعديد من هذه النفايات هي مواد بلاستيكية و ما شابه غير قابلة للتدوير وتساهم في ظاهرة الإحتباس الحراري وارتفاع درجات الحرارة بسبب بثها لإشعاعات أثناء تحللها وقد تصل رواسبها للمياه الجوفية . وهذا ما يفسّر ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض لم يعرفها الآباء والأجداد . والمحزن أنه ليس للبلديات سياسة معينة للإهتمام بهذه النفايات لا من ناحية جمعها في مكان واحد أونقلها لمطامر صحية أو فصل المواد حسب نوعها أو من ناحية التنسيق مع مركز القضاء أو المحافظة في هذا الشأن، بل تكتفي بتكليف رجل بسيط صاحب جرّار زراعي بجمع النفايات من المنازل فيقوم برميها في أقرب مكان توفيراً للوقت و المحروقات من دون علمه بعاقبة هذا الأمر.
هذا ويتحمّل المواطن المحلّمي مسؤولية أيضاً في تدهور البيئة من حوله ، فظاهرة قطع الأشجار وجمع الحطب بطريقة عشوائية ومن دون رقابة - وإن وجدت فتأتي متأخرة - منتشرة بين الناس ، فالكثير من المحلمية عكف عبر العقود بل القرون الماضية إلى قطع الأشجار سعياً لتأمين حطباً يؤمن له ولعائلته التدفئة في فصل الشتاء ، من دون الإنتباه أو جهل بدور الأشجار في حماية البيئة والحفاظ على توازن النظام والمنظومة الأيكولوجية ، حتى أصبحت هضابنا وتلالنا شبه جرداء من دون معالم تكاد تكون مملّة وبسيطة ، فأصبح بيت محلّم - إذا نظرنا لطبيعته الطوبوغرافية والجغرافية من سهل أو واد تحيطه من كل إتجاهاته جبال ماردين والصور ومحافظة باتمان وقضاء نصيبين على الحدود التركية السورية – من واد ذي زرعٍ إلى واد غير ذي زرعٍ ، يكاد يضربه القحط إذا استمرينا على هذه الحال . كذلك توجّه العديد من رجالنا وشبابنا إلى العمل في قطع الأشجار في حال أصابتهم البطالة كي يؤمنوا قوت يومهم ، فأصبحت مهنة موسمية منتشرة بين الناس. هذا الجهل بأهمية الأشجار فيما يتعلق بالحفاظ على البيئة وذلك عبر محاربتها التصحّر عبر تشكيلها لسد منيع أمام حمل الرياح للأتربة و تشبّث جذورها بالتربة فتمنع الإنزلاقات وقدرتها على تخزين المياه وبكميات كبيرة قد تصل إلى آلاف الليترات وذلك طبعاً حسب حجمها ، أيضاً دورها في تنقية التربة والحفاظ على رطوبتها وتنقية المياه فتحافظ على المياه الجوفية نظيفة ، وهذا ما بدأنا نفتقده في منطقتنا والمعروفة بوفرة مياهها الجوفية حيث تنتشر الآبار الطبيعية في الجبال والوديان وتبقى ملأة طوال العام ، أما الآن فقد نضبت العديد من الآبار وتلوثت أخرى ، وزادت ملوحة التربة واختفت العديد من أنواع النباتات والتي تتميز بها منطقتنا بها لكونها مثمرة ولا تستهلك الكثير من المياه .
ليس التمدّن والنمو الإقتصادي والسكاني المسؤول الوحيد عن التغير المناخي في بيت محلّم ومحافظة ماردين ، بل أيضاً حكومة حزب العدالة والتنمية للحكم ، هذه الحكومة التي حققت أرقاماً قياسية في النمو خلال فترة زمنية قصيرة وطبّقت مفهوم توزيع الثروات العادل والدخل على المواطنين كافة ومن دون تمييز فقامت بصرف راتب شهري للعاطلين عن العمل و للزوجات وللأولاد التلاميذ منهم والرضّع ، وغيرها من التقديمات الإجتماعية والصحية المجانية ، كذلك تقدمة حصّة سنوية من الإعاشات و الفحم للتدفئة مجّاناً مما ساهم في زيادة التلوث كون إحتراق الحطب الطبيعي أخف ضرراً من الفحم المحروق صناعياً ويحتوي على نسبة كربون أعلى ، كذلك ساهمت هذه الأمور بإنشاء فئة من الرجال والشباب كسولة تتسكّع عند مسجد القرية ، وإن طلبت خدماتهم تلكّأوا لأنهم يعتمدون على التقديمات الإجتماعية لسد الحاجات الأساسية لعائلاتهم ، فئة مستهلكة غير منتجة فهملت زراعة الأراضي وتربية الحيوانات واعتمدت على شراء البضائع الجاهزة ، وترتيب الدين على أنفسهم كون الإنسان ضعيف أمام نفسه وشهواته و غيّور .
كل هذا انعكس اهمالاً للأرض التي زرعها أجدادنا منذ قرون وبذلوا فيها الجهد وأراقوا فيها العرق والدماء للمحافظة عليها ، لأنهم عرفوا قيمتها أكثر منا وللأسف ، نحن الذين أضعنا الثروة الطبيعية التي أورثونا إياها والتي يتمناها ويحسدنا غيرنا من العرب عليها . الحل هو بتوعية أهلنا في بيت محلّم لهذه المخاطر التي يتكون لها عواقب وخيمة على حياتهم وصحتهم وصحة أولادهم ، هذا الموضوع الذي يشغل العالم وتتداوله المؤتمرات والندوات الدولية وآخرها مؤتمر كوبنهاغن الذائع الصيت . علينا إعتماد وسائل التنمية المستدامة بأبعادها البيئية والإقتصادية والإجتماعية والبشرية ، والتي تندرج من ضمنها أسلوب حياة عرفه آبائنا وأجدادنا منذ القدم وهو الإستهلاك الرشيد والإهتمام بالأرض والتخفيف من الإنبعاثات وإستعمال الحيوانات في النقل والإستهلاك والإبتعاد عن إستهلاك الكماليات والإنتباه لزراعتنا العضوية البعيدة عن كل المواد والأسمدة الكيماوية ، فمنطقتنا تعرف بكونها من المناطق النادرة التي ما زالت تزرع حسب الطريقة القديمة الطبيعية الخالية من المواد السامة حيث تعلف الحيوانات من الجبال تأكل العشب الطبيعي ، وهذا ما دفع بالسعودية لطلب احتياجاتها من اللحوم من منطقتنا لجودتها ونظافتها ، و تقديم الإمارات العربية المتحدة مبلغ 3 مليار دولار لتمنية هذه المناطق زراعياً والإستيراد منها ، كذلك دعم الإتحاد الأوروبي لهذه المنطقة ضمن مشروع الجاب حيث ستكون هذه المنطقة وتركيا المجال الحيوي لأوروبا في المستقبل تأكل من إنتاجها ، وفي موضوع ذي صلة إكتشفوا في الولايات المتحدة الأميركية في ولاية كاليفورنيا أن أزدياد معدلات الحرائق فيها ناتج عن إحتراق الأعشاب اليابسة فيها بسبب وجود عوامل مساعدة للإشتعال بسبب طبيعة الولاية وتمدّنها ، فوجدوا أن السبب هو انتشار هذه الأعشاب وبكثرة وغياب الجهود لإزالتها فرأوا أن الحل الأنسب هو العودة إلى الماضي وترك المهمة للمواشي فقام القيمين على الولاية بإستئجار المواشي وإطلاقها في الهضاب لأكل الأعشاب كذلك للإستفادة من سمادهم الطبيعي وفوائده للتربة و الزرع.
في النهاية أقول ، كان أجدادنا يأكلون من ما يزرعون .. ويلبسون من ما يحيكون.. ويبيعون من ما ينتجون وهذا أمّن بقائهم واستقلاليتهم وركّزهم في أرضهم وحافظ على ثقافتهم وعاداتهم .. أما اليوم فالعكس هو الواقع .. فأتمنى أن لا يتطبّق فينا القول التالي : "ويلٌ لأمّة تأكل من ما لا تزرع .. وتلبس من ما لا تصنع (أو تنسج) ... " .
الخميس يوليو 25, 2019 12:37 am من طرف ياتي
» اين هم بنو تغلب اليوم؟
الخميس يوليو 25, 2019 12:29 am من طرف ياتي
» نحن بنو محلّم بن ذهل بن شيبان
الثلاثاء يونيو 25, 2019 5:21 pm من طرف Admin
» هل هذه الاشعار للهجتنا المحلمية؟
الثلاثاء يونيو 25, 2019 5:18 pm من طرف Admin
» كلام يجب أن يُقال!
الثلاثاء يونيو 25, 2019 5:16 pm من طرف Admin
» الفرع هو الذي يتبع الأصل
الثلاثاء يونيو 25, 2019 5:14 pm من طرف Admin
» الكوسوسية في طور عابدين
الثلاثاء يونيو 25, 2019 5:13 pm من طرف Admin
» باعربايا في المصادر التاريخية
الجمعة ديسمبر 28, 2018 6:06 pm من طرف Admin
» العرب بين التاريخ والجغرافية
الجمعة ديسمبر 28, 2018 6:03 pm من طرف Admin
» هل المحلمية قبيلة قائمة بحد ذاتها أم منطقة يُقال لكل من يسكنها محلّمي؟
الأحد نوفمبر 04, 2018 11:52 pm من طرف Admin
» بيت شعر للشيخ يونس بن يوسف الشيباني باللهجة المحلمية
الأحد نوفمبر 04, 2018 11:49 pm من طرف Admin
» السريانية كنيسة وليست قومية
الأحد نوفمبر 04, 2018 11:47 pm من طرف Admin
» وفاة شيخ قبيلة المحلمية رفعت صبري ابو قيس
الأحد نوفمبر 05, 2017 10:56 am من طرف ابن قيس المحلمي
» السلام عليكم
الإثنين أغسطس 21, 2017 11:03 pm من طرف narimen boudaya
» المجموعة الكاملة للفنان جان كارات
الأربعاء يونيو 28, 2017 1:23 am من طرف nadanadoz